top of page

العقل مقابل الآلة: النتيجة الطبيعية الفلسفية لنظرية عدم الاكتمال لجودل



استذكر عالم الرياضيات الكندي سيمون كوشن “Simon Kochen” في تكريمه لكورت جودل “Kurt “Gödel كيف طُلب منه خلال امتحان الدكتوراه أن يسمي خمس نظريات لجودل. كان جوهر السؤال هو أن كل النظريات قد ولدت فرعًا جديدًا أو أحدثت ثورة في المنطق الرياضي الحديث. "نظرية الإثبات “Proof Theory”ونظرية النموذج “Model Theory” ونظرية العودية “Recursion Theory” ونظرية المجموعات “Set Theory” والمنطق الحدسي “Intuitionistic Logic” هي نظريات بدأت أوتم توليدها اعتمادًا على أعمال جودل" (جولدستين 2005). ولكن من بين كل الإنجازات الرائعة التي حققها كورت جودل يبرز إنجاز واحد بشكل استثنائي هو نظرية عدم الاكتمال “Incompleteness Theorem”

لا يحتاج المرء إلى أن يكون عالم رياضياتٍ متمرس لفهم الفكرة الأساسية ورسالة نظرية عدم الاكتمال. وربما لهذا السبب اكتسبت هذه النتيجة الكثير من الجرأة في النقاش العلمي الشعبي. لكن هذه البساطة العبقرية ليست سوى جانب واحد من العديد من جوانب عمل عام 1931 التي تميزه عن الأعمال البارزة الأخرى لهذا العالم النمساوي الكبير.


يبدو لي أن ما أذهلنا منذ البداية عندما صادفنا نظرية عدم الاكتمال لأول مرة هو ملاحظة أنها ليست مجرد نتيجة واحدة من النتائج الرياضية. أي أنها لا تهدف إلى تحديد ما إذا كان للعنصر المجرد X خاصية φ. بدلاً من ذلك، يتعلق الأمر بمجموع العبارات الرياضية المنطوقة في مجال معين (لانهائي تمامًا وأساسي تمامًا). قد يميل المرء إلى قول إن هذه النظرية تخبرنا بعض الشيء عن كل شيء.


هذا الخلاف سابق لأوانه بعض الشيء لأن الورقة الأصلية تعاملت فقط مع مجموعة الأحكام التي يمكن التعبير عنها في شكلية كتاب مبادئ الرياضيات “Principia Mathematica” ولكن نظرًا لأن نظرية عدم الاكتمال تنشأ بمجرد احتواء النظام على العمليات الحسابية الأساسية فإننا نستنتج على نحو مناسب أن هناك شيئًا عميقًا جدًّا وبعيد المدى في هذه النتيجة. إلا أن جودل الذي كان حريصًا كعادته لم يؤمن بأن النقص يميز جميع الأنظمة الرسمية مع بعض الحسابات المحددة (مثل حساب روبنسون) حتى عام 1935 عندما رأى تحليل تورينج “Turing” لنظرية الحاسوبية “Computability”. لقد كان عمل تورينج هو الذي جعل عدم القدرة على اتخاذ القرار فكرة عامة آسرة من الناحية الفلسفية. لاحظ جودل في محاضرته في مؤتمر برينستون الذكرى المئوية الثانية لمشاكل الرياضيات بأن:


الصفحة الأولى من ورقة تورينج الأساسية التي أنتجت نظرية الحاسوبية قد قدمت فكرة آلة تورينج وأقنعت جودل بعمومية عدم اكتمال الأنظمة الرسمية.


شدد تارسكي Tarski في محاضرته [التي سبقت جودل] (بكل استحاق أعتقد) على الأهمية الكبرى لمفهوم التكرار العام (أو حاسوبية تورينج). يبدو لي أن هذه الأهمية ترجع إلى حد كبير إلى حقيقة أنه مع هذا المفهوم نجحنا لأول مرة في تقديم تعريف مطلق لمفهوم معرفي مثير للاهتمام أي تعريف لا يعتمد على الشكلية المختارة.


وبينما يشير جودل إلى نظام رسمي تكون فيه عبارة معينة صحيحةً وغير قابلة للإثبات، يظهر تورينج أنه يمكن للمرء التفكير في "آلة حسابية" لا يمكنها حساب قيمة وظيفة معينة. وبفضل تحليله لمفهوم الحاسوبية كانت حالة تورينج غير مقيدة باختيار نظام رسمي مما يجعلها مطلقة. يشرح تورينج قائلا:


أظهر جودل أنه (في شكلية كتاب مبادئ الرياضيات Principia Mathematica) توجد افتراضات U بحيث لا يمكن إثبات U ولا ~U. نتيجة لذلك يتضح أنه لا يمكن تقديم أي دليل على اتساق مبادئ الرياضيات “Principia Mathematica” (أو أنه لـ K [نظام شكلي اعتباطي مع الحساب الأساسي]) ضمن تلك الشكليات. [...] سأوضح أنه لا توجد طريقة عامة توضح ما إذا كانت صيغة معينة يمكن إثباتها في K (تورينج 1936)

كانت هذه خطوة عملاقة في التفكير في مفهوم الحقيقة الرياضية وربما كانت الأهم في التاريخ. لقد أظهر لنا بطريقة بسيطة وفريدة أن الحقيقة لا تعني إثباتها على الفور. وبهذا المعنى فإن هذه النتيجة التي تنتمي إلى ما وراء الرياضيات تهم الفلاسفة أكثر مما تهم علماء الرياضيات. ولذلك بدأ الفلاسفة بما فيهم جودل وتورنج في التفكير في العواقب الفلسفية لهذه النظرية المذهلة.


الآن وبشكل عام ومنذ أن وضع عمل تورينج أسسًا لعلوم الحاسوب وأدى في النهاية إلى بناء أجهزة الكمبيوتر الأولى، يمكننا أن نتساءل عن القدرات الرياضية لأجهزة الكمبيوتر: ما هي حدود "قدراتها" في إثبات النظريات الرياضية؟



يعتقد بعض المفكرين مثل جون لوكاس والفيزيائي الشهير روجر بنروز (الحائز على جائزة نوبل لعام 2020) أن عمل جودل وتورنج يظهر بدقة رياضية أن العقل البشري "يتفوق بلا حدود على الآلة". على الرغم من اختلاف حجج لوكاس وبنروز فإن جوهر أفكارهما هو: (1) ضع في اعتبارك وجود نظامٍ رسميٍّ S مع البديهيات العودية “Recursive Axiomatics” وقوة تعبيرية كافية لتوضيح الحقائق الحسابية له نظير في آلة تورينج المحدودة M. (2) يمكنك إيجاد حكم جودل لهذا النظام (جملة غير قابلة للتقرير من منظور النظام) والتي تبدو مصداقيتها واضحة بشكل بديهي للبشر. (3) نظرًا لأن M لا يستطيع تقديم دليل على حكم جودل المذكورة فإن قدراتها الرياضية تكون أقل من قدرات العقل. لذلك يمتلك العقل البشري بعض القدرة التي تتيح له صنع الرياضيات والتي تفتقر إليها الآلات.


كان جودل يعتقد أن العقل أكثر قدرة من الناحية المعرفيًة من الآلات وكان يرى أن عملية تحليل المفاهيم الرياضية الأساسية التي تؤدي إلى إنشاء بديهيات جديدة أكثر كمالًا عن اللانهاية (في نظرية المجموعات المجموعات ZFC) هي الدليل على تقدمنا ​​وتفوقنا على الآلات حيث قال:

في التأسيس المنهجي لبديهيات الرياضيات تتجلى البديهيات الجديدة التي لا يتبعها المنطق الرسمي من تلك التي تم وضعها سابقًا ومرارًا وتكرارًا تصبح بديهية. لا تستبعد النتائج السلبية المذكورة سابقًا [نتائج عدم الاكتمال] أنه وبالرغم من ذلك فإن كل سؤال رياضي يُطرح بوضوح بنعم أو لا يمكن حله بهذه الطريقة. لأنه أصبح واضحًا أكثر فأكثر من البديهيات الجديدة على أساس معنى المفاهيم البدائية التي لا تستطيع الآلة تقليدها. (جودل، 1995، ص 385)


أطلق جودل على هذه القناعة التي تقول بأنه يمكن الإجابة على كل سؤال رياضي بنعم أو لا اسم "التفاؤل العقلاني" “Rationalistic Optimism”. وعلى الرغم من أنه دعم هذا التوجه علنًا فقد كان حريصًا بدرجة كافية على اكتشاف أن نظرية عدم الاكتمال (جنبًا إلى جنب مع عمل تورينج) لا تعني بالضرورة أن البشر سيتفوقون دائمًا على الآلة.


لأنه لا أحد يستطيع أن يقول بأننا لسنا آلات أكثر قدرة بقليل من آلات تورينج (المحدودة)؟ ربما يوجد حُكم لجودل علينا؟ من يستطيع إثبات تماسك العقل البشري؟ وحتى لو تجاوز العقل الآلة فربما لا يزال هناك شيء غير معروف عنه؟ عبّر جودل عن نطاق الاحتمالات فيما يعرف اليوم باسم "انفصال جودل المنطقي" “Gödel’s Disjunction”:


إما أن يتفوق العقل البشري على جميع الآلات (لكي نكون أكثر دقة: يمكنه أن يقرر عددًا من الأسئلة النظرية أكثر من أي آلة) أو أنه توجد أسئلة نظرية رقمية غير قابلة للتقرير بالنسبة للعقل البشري.


تعتبر كل الاحتمالات مثيرةً للاهتمام: إذا تجاوزت القدرات العقلية للإنسان قدرات الآلة فلا بد أن يكون هناك شيء غير قابل للبناء من قبل مهندسي تكنولوجيا المعلومات في أدمغتنا. بمعنى آخر لا يمكن تعيين العقل في جهاز كمبيوتر. وبالتالي فإن أحلامنا في مجال الذكاء الاصطناعي لن تتحقق. يلهم هذا الخيار السؤال عن طبيعة الوعي. قد يعتقد البعض أن السبب في استحالة تركيبها في الآلة هو أنها غير مادية.


يبدو أن الخيار الثاني غير واقعي بدرجة أكبر. إذا كانت هناك بعض الأسئلة الرياضية التي لها إجابات لا يمكن الوصول إليها من قبل العقل البشري فهذا يعني أنه يمكننا التحدث عن شيء من "الرياضيات" الأفلاطونية أي العناصر (النظريات) المستقلة عن تفكيرنا، ولكنها موضوعية وغير متغيرة. يبدو أن هذا يدفعنا نحو وجهة نظر فلسفية ضد إرادتنا!


يوجد أيضًا خيار ثالث: على الرغم من أن الفصل المنطقي "Disjunction" مذكور في شكل "إما - أو" فلا يبدو أن كلا الاحتمالين يستبعدان بعضهما البعض. يمكن لكليهما أن يكون هو الحالة. يمكن للمرء أن يفكر في نوع من التسلسل الهرمي للقدرات المعرفية الذي يبدأ بآلة تورينج ثم يذهب إلى العقل البشري ثم يصل إلى عالم لا يمكن للعقل البشري الوصول إليه. يقدم هذا الخيار الكثير من الاختلافات الوجودية وبالتالي فهو غير اقتصادي تمامًا ولكننا مازلنا غير قادرين على استبعاده.


لكن القضية أكثر إشكالية حيث يجب التأكيد على أن الفصل الثاني لا يعني على الفور أن الإجابات التي يتعذر على العقل الوصول إليها موجودة. أي أنه لا يزال من الممكن أن تكون الحالة هنا تفيد بعدم وجود "رياضيات" وأن الرياضيات هي محض ثمرة للنشاط الحر للعقل البشري (كما قال بروير): إذا لم تكن هناك إجابات للبشر فلا يوجد فترة للإجابات. يقودنا هذا المسار إلى سؤال أعمق: هل يمكننا بطريقة ما دراسة ما إذا كانت المشكلات الرياضية لها إجابات في التجريد من مهمة "عملية" لحلها واحدة تلو الأخرى؟ ربما تملك المفاهيم المستخدمة في الرياضيات شكلًا متأصلًا يؤدي إلى "الوضوح الجيد" أو عدم العقلانية في سؤال معين؟ ربما هناك بعض القواعد الرياضية العميقة التي يمكن أن توضح لنا أنه "لا يوجد إجراء عام لتحديد مشكلة عشوائية" ولكن سبب عدم وجود ذلك؟


إذا أردنا فيمكننا أن نزيد من إشكال القضية الأولية. نظرًا لأنه لم يتم إثبات أن العقل هو في الواقع آلة (ليس آلة تورينج المحدودة) فقد يفترض المرء أنه يمكن أن توجد "آلة خارقة" كانت قادرة على رؤية عدم اكتمالنا. هذا من شأنه أن يقلب الاستنتاج الفلسفي الأولي من النظرية رأسًا على عقب.


يعتقد تورينج أن نتائجه ونتائج جودل تستلزم أن العقل البشري المجرد سيكون دائمًا أكثر قدرة رياضيًا من جهاز كمبيوتر واحد من صنع الإنسان. لكن السؤال يبقى عما إذا كانت ستتجاوز مجمل جميع آلات الحوسبة عند "عندما تكون مجتمعة القوى والقدرات" وهذا ليس واضحًا تمامًا. كما رأى تورينج أيضًا هذا الخيار عندما قال في راديو هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي عام 1951 أنه لا يزال من غير المستبعد أن الآلات لا يمكن أن تكون ذكية وأننا لا نستطيع تعلم أي شيء حول عقولنا من خلال دراسة الآلات.


من ناحية أخرى اعتقد جودل (لكنه لم يكن على يقين) أن العقل يتفوق بلا حدود على الآلة. لقد أخذ (عن طريق الخطأ) منطق تورينج في بحثه الأساسي عام 1936 ليقول بأن العقل يمكن أن يكون مساويًا للآلة. ووصف هذا الادعاء بأنه "مغالطة فلسفية" كما قال في وقت لاحق في محادثة مع هاو وانغ Hao Wang بأن

"العقل ليس ثابتًا في استخدامه ولكنه يتطور باستمرار"


ولا يمكن للآلات أن تتطور بهذه الطريقة، فعملية التطوير هذه هي شيء غير خوارزمي وغير ميكانيكي ولا يمكن للآلة تعقبه.


وهكذا بدأ الخطاب الجديد بين الآلية والآلية المضادة بتصريحات مؤسِّسَي النتائج التي وضعت الأسس النظرية لعلوم الكمبيوتر.


هناك الكثير من الأمور التي تحتاج توضيحًا في المناقشات فلا تزال فكرة "العقل البشري" و "العقل المجرد" وكذلك "الآلة" بحاجة إلى بعض التفسيرات (على الرغم من أنه يبدو أن التطورات الجادة في نظرية الآلات ذاتية التشغيل “Automata Theory” واللغويات النظرية تعطي بعض النتائج الأولية) وهذا بغض النظر عن مفاهيم تورينج عن "العبقرية" و "الحدس" و "الحدس الرياضي" لجودل التي تلعب دورًا حيويًا في النقاش، ولكنها لا تزال غامضة للغاية.

نتعمق أكثر فأكثر في سلسلة الأسئلة اللامتناهية وقبل بعض الوقت بدت لي نظرية عدم الاكتمال كحجة حاسمة أنهت عددًا من المناقشات. لكني في الآونة الأخيرة أميل إلى رؤية العكس: كم عدد الأسئلة التي يلهمها هذا العمل ومدى خصوبته فلسفيًا.

 

المراجع:

  1. كرت جودل (1995) "التطور الحديث في أسس الرياضيات في ضوء الفلسفة" مقالات ومحاضرات غير منشورة ، جامعة أكسفورد.

  2. غولدشتاين ، ر. (2005) عدم الاكتمال. الدليل والمفارقة عند كورت جودل.

  3. تورينج ، أ. (1936) "حول الأرقام القابلة للحساب مع تطبيق مشكلة إنشندنج في: وقائع جمعية لندن الرياضية. 42 (1) الصفحات من 230 إلى 265.

 

ترجمة:

عبدالكريم


مراجعة وتدقيق:

علي الحمد

168 views0 comments
bottom of page