يوماً ما سيصبحُ الحلمُ حقيقة، وسيصبح عالمنا بلا أمراض... من المؤكدِ أنك الآن تتساءلُ في نفسك عما أقصدهُ في الجملةِ السابقة، وأنهُ ليس من المنطقي أصلا التفكير في إمكانيةِ القضاءِ على الأمراضِ بشتى أنواعها في العالمِ أجمع ...
لنبدأ أولاً بالتعرف على بعض المصطلحات التي ستقودنا إلى صلب الموضوع...
كما نعلم، تحتوي خلايا جميعُ المخلوقاتِ الحيةِ على أنوية، وتحتوي هذه الأنوية على معظمِ المادةِ الوراثية الموجودة في الخلية التي تشكل معاً المجموعُ الوراثي أو ما يعرف بالجينوم، وهو التسلسل الكامل للحمض النووي الرايبوزي لدى المخلوق الحي، حيثُ تعتبر الأكثر أهمية في جميع الجزيئات الحيوية لأنها تشفر وتخزن جميع المعلومات ومن ثم تنقلها وتُعبِر عنها داخل وخارج النواة...
تمكن العلماء حتى وقتٍ قريب من تتبع بعض التغيرات التي تطرأ على الحمض النووي والتي تؤدي إلى المرض، ومعرفة وظيفة كل جين وما يتبع تغييرهُ من تغيراتٍ في وظيفتهِ، وتم إنشاء العديد من المشاريع المختصة في فهم وتطوير بعض التقنيات التي تمكن العلماء من التلاعب في الشفرةِ الوراثيةِ للخلوقات الحية لأهداف مختلفة، ولعل أبرزها مشروع الجينوم البشري الذي أُطلق عام 1990م وجاءت نتائجهُ إيجابيةً جدًا ومن المتوقع أن يتم الانتهاءُ منه قبل موعدهِ المحدد...
يعد التعديلُ الجيني طريقة جيدة لتعديلِ المادة الوراثية للمخلوقات الحية لتصبح أكثر تطورا، ويكونُ التعديلُ إما بحذفِ أو إضافةِ الجينات، ولكن هذا التعديل صعب جدًا على الخلايا البشرية وكلفتهُ عاليةٌ جدًا، ومن أبرزِ تقنيات التعديل أو التحرير الجيني والتي أحدثت ضجةً واسعةً وتغييرًا كبيرًا في الآونةِ الأخيرة هي تقنية كريسبر-كاس9 وهي تقنيةٌ تجمعُ مكونين رئيسيين وهما جزيء الحمض النووي الدليل وبروتين كاس9...
للتحرير الجيني العديد من الاستخدامات فهو يُستَخدم في البحوث الطبية لتَتَبُع أثر الجينات على الأمراضِ المعقدةِ مثل السرطان والزهايمر عن طريق تعطيل الجينات، ويستخدم أيضًا للقضاءِ على مرض الملاريا عن طريق تغيير جينات البعوض ليُصبِحَ مقاومًا لحَمل المرض ويتوارث هذه الصفة الأجيال القادمة من البعوض وبالتالي لا ينتقل المرض للإنسان عند تعرضهِ للسع هذا البعوض، أيضًا يعمل العلماءُ على تطويرِ استخدامِ التحرير الجيني لعلاج أمراض الدم الوراثية مثل الثلاسيميا والأنيميا المنجلية... على الرغم من وجود هذهِ المنافع للتحرير الجيني إلا أن له أضرارًا كثيرة، و لا يزال العلماء يعملون على تطوير تقنيات ذات أضرار أقل من تلك الموجودة، فبعضُ التقنيات تؤدي إلى تعزيزِ جهازِ المناعة بشكلٍ سلبي وبعضها الآخر يؤدي إلى انقسام الخلايا بشكلٍ غير طبيعي مما يؤدي إلى تكونِ الأورام السرطانية...
تم العمل على العديد من التجاربِ المختبريةِ لتقنيات التحرير الجيني، ولكن في عام 2018م قام طبيبٌ صيني بعمل تجربة غير أخلاقية حيث قام فيها بتعديل الشفرةِ الوراثيةِ لدى جنينين ليصبحا مقاومينِ لفايروس عِوَز المناعةِ البشري المسبب لمرض الإيدز وذلك عن طريق استخدام تقنية كريسبر-كاس 9 لتعطيل الجين المنتج للمُستقبل البروتيني المتجانس الازدواج، وقد تم سجن هذا الطبيب بعد ذلك لأنهُ خالفَ قوانين لجنةِ الأبحاثِ العلميةِ وجعلَ العديد من الآباء يتبرعون له بأجنتهم من أجلِ هذه التجربة...
تخضعُ تجاربُ العلماء لقوانين لجنة البحث العلمي، وبما أن التحرير الجيني يؤدي إلى تغييرٍ دائمٍ في المخلوق الحي، ويصعبُ بعد ذلك التخلصُ من هذا التغيير، تم إيقاف العديد من التجارب التي كانت يجب أن تطَبَق على البشر، ولكن إذا تم تطوير التقنيات وحل هذه المشكلة سيمكننا التعديلُ الجيني من التخلص من جميع الأمراض حتى الوراثية منها وسيصبح الجيلُ الجديدُ قادرًا على مقاومةِ الفيروساتِ ومسبباتِ الأمراض، وحتى لو لم يتم التطبيق المباشر على البشر يمكن استخدام التحرير الجيني لتغيير الشفرة الوراثية في الفيروسات أو البكتيريا أو حتى الحشرات والحيوانات لتصبح ضعيفةً وغير قادرة على التأثيرِ على البشر، ويُتَوقَعُ بذلك زيادةٌ في متوسطِ عمر الإنسان...
وفي الختام، جديرٌ بالذكرِ أن العلماء والأطباء قد قدموا الكثير في مجال تحرير الجينات في فترة قصيرة جدًا، وهذا يجعلنا نستبشرُ بمستقبلٍ مشرقٍ لهذا المجال وأنه سوف نتمكن من تحقيق ما نجده الآن مجرد توقع وخيال...
المصادر :
مشروع الجينوم البشري
كائنات معدلة وراثيا
كريسبر-كاس 9
أداة جديدة لتحرير الجينات يمكنها إصلاح العيوب الوراثية مع الحد من الآثار غير المرغوبة
الصين تسجن باحث "الأجنة المعدلة وراثيا"
كتابة:
نور جناحي.
مراجعة و تدقيق:
مريم سعيد
Comments