في شبكة الحياة؛ تحيط بنا الألوان بمختلف تراكيبها، وتستجيب أعيننا لها وفقاً لما يترجمه الدماغ، ويعد توزيع الألوان في عالمنا جزءًا متناسقاً ومتكاملاً مع الكون بأكمله، كما أنها شكل من أشكال التواصل، إذ تعتبر الألوان مؤشراً لوقت الحصاد أو لتبدل الفصول، وتعمل كإشارة تحذير لسمية بعض الحيوانات أو لجذب الطرف الآخر من نفس النوع.
ويبين ذلك في الجانب العلمي من خلال أن الكثير من الألوان في الطبيعة تنتج من خلال أصباغ تعكس مقدار من الضوء وتمتص المتبقي منه، كما في النباتات إذ إنها تتحكم في التركيب الكيميائي الحيوي وخلاياها تكون قادرة على إنتاج أصناف متعددة من الأصباغ، بعكس عامة المملكة الحيوانية فهي فاقدة للمسارات الأيضية المتعلقة بإنتاج معظم الصبغات. على سبيل المثال، الأصباغ التي قد تنتجها الحيوانات كصبغة (اليوميلانين) ذات اللون البني، وصبغة (الفيوميلانين) الصفراء المحمرة هي أصباغ محدودة تتواجد عند نقصان أصباغ الميلانين وترتبط بفقدان وراثي لوظائف مستقبلات معينة، ولكن من ناحية أخرى تكون صبغة (الميلانين) هي السائدة في المملكة الحيوانية.
حينما قد يراود البعض الفضول عن تفاوت وجود اللون الزهري في ريش طائر النحام، فإننا نجيب على ذلك؛ بأنه في الغالب يمكن للحيوانات أن تحصل على الأصباغ المميزة من نظامها الغذائي، فمثلاً يأتي اللون الزهري المحمر في الطيور عادة من أصباغ الكاروتينويد المتواجدة في طعامهم.
ولكن هذا لا يعني أن جميع الأصباغ يتم الحصول عليها من خلال النظام الغذائي، فلسيت جميعها متوفرة للأكل في الطبيعة، ولهذا فإن بعض الأنواع من الحيوانات مثل الطيور والحشرات تنتج هذه الألوان عند غياب أصباغها فهي تقوم بصناعة ما يدعى بالألوان الهيكلية، والتي تعتبر طريقة أخرى لإنتاج اللون عن طريق خلق هياكل نانوية تعكس الضوء أو تلاشيه فتسمح بمرور وتداخل بعض الأطوال الموجية، وبالتالي تظهر ألوان لا تظهرها الأصباغ العادية التي تمتص الضوء.
إيضاحاً لهذه العملية ذكر الخبير "ريتشارد بروم" من جامعة ييل للأبحاث الخاصة، أن الأمر يتعلق بوجود الكثير من الهياكل الصغيرة التي تعمل على تشتيت الضوء ومن ثم تتفاعل الموجات المتناثرة مع بعضها مما يؤدي إلى تعزيز البعض من الألوان والقضاء على أخرى.
والجدير بالذكر أن ما يميز هذه الطريقة عن غيرها هو احتوائها على عنصر القدرة على التكيف مما يؤدي إلى جعل الألوان طويلة الأمد، علاوة على إنتاج تقزح في اللون فيحدث فيه تغيير أو يبدو ساطعاً باختلاف زاوية النظر، بعكس الأصباغ الكيميائية التي تنتج ألوان متماثلة من جميع الزوايا.
إثباتاً لذلك عملت الفيزيائية في جامعة كامبريدج؛ الولايات المتحدة "سيلفيا فيجنوليني"، على متابعة نباتات “Pollia condensate” أو توت العليق الرخامي، وهي نباتات تستخدم مركب السيليلوز في صنع هياكلها النانوية وثمارها تظهر باللون الأزرق الساطع، كما أنه توجد عينة من هذه النباتات لا تزال محتفظة بسطوعها لأعوام طويلة بينما اضمحلت صبغة الكلوروفيل من أوراقها.
وتفسيراً لذلك تم فحص هذه النباتات وتبين بأن ألياف السيليلوز النانوية في الثمرة رتبت على هيئة بنية حلزونية ملتفة لليمين واليسار،وبالتالي فهي تستقطب الضوء على شكل نظام دائري في كل اتجاه.
ترتيباً على ما سبق، تعد فراشة المورفو من الحشرات التي تخضع للأمر ذاته، فأجنحتها تتكون من العديد من التدرجات الشفافة الدقيقة ويفصل بينها الهواء، وعند اصطدام موجات الضوء بها يجعلها تنعكس عدة مرات، ونتيجة لكل هذه الانعكاسات ينتج اللون الأزرق القزحي لأجنحة الفراشة، وعليه فإن بنية هذه الهياكل أيضاً تساهم في إظهار التقزح اللوني.
ومن الضروري أن نؤكد على أنه ليس السيليلوز فقط من ينتج اللون الأزرق كلون هيكلي، بل وضحت دراسة أجريت عام2015 من قبل الأستاذ المساعد "ماتياس كولي" ومجموعة من زملائه، بأن مسألة ظهور صفوف طولية زرقاء مشعة على صدفة إحدى الرخويات باطنيات القدم والتي تعرف باسم “Patella pellucida” أو "رخويات الأشعة الزرقاء"، ترجع إلى وجود صفائح مجهرية متفاوتة من كربونات الكالسيوم المتبلور في غلاف صدفة هذه الرخويات، والتي تعمل على انعكاس جزء من الضوء فتتفاعل أطوال الضوء الموجية المتشتتة مع بعضها إلى أن تلغي جميع الأطوال بعضها دون الأطوال الموجية الزرقاء التي تصل إلى عين الراصد.
بينما يعتمد إنتاج اللون في ريش الطاووس على أحزمة الميلانين المرتبطة بشريط الكيراتين والتي تفصل بينها ثقوب هوائية، بحيث تكون هذه المصفوفات الطبقة السطحية للقشرة، وتختلف الألوان نتيجة لاختلاف ترتيب هذه المصفوفات اعتماداً على مدى تباعدها أو عدد طبقاتها.
في صدد آخر، بعض أنواع الحيوانات لديها القدرة على التمويه والذي يعنى به توافق وانسجام المخلوق الحي مع الطبيعة، من خلال تبديل وتغيير ألوانه للتماثل مع الوسط البيئي المرئي، ومن المحتمل أنها استراتيجية تقوم بها الحيوانات للافتراس أو لتفادي الخطر. على سبيل المثال، تقوم بعض الحيوانات مثل الرخويات بتغيير ألوانها نتيجة لاحتواء جلدها على بعض خلايا الكروماتوفور الصبغية والتي بدورها تحتوي على طبقات من البروتينات العاكسة والتي من الممكن أن تتغير بسرعة من هيئة مرتبة إلى هيئة مضطربة، عن طريق تقليل سماكة هذه الطبقات أو زيادتها، فنمط تغير اللون يعتمد على مقدار تنشط الخلايا العصبية وهذا بدوره يربط تبدل الألوان مع تغير الحالة المزاجية مثل حالة الغضب أو الخوف للمخلوق الحي.
وهذا ما يمكننا أيضاً وصفه لتوضيح سر تغيير الحرباء لألوانها، فلكل نوع من فصائل الحرباء أساليب وألوان مختلفة، إذ إن جلد الحرباء يتكون من عدة طبقات تمتلك أنواع منفصلة من الخلايا الصبغية (حاملة اللون)، ونبين ذلك على النحو الآتي:
- طبقة (Chromatophore): هذه الطبقة تحتوي على أصباغ صفراء وحمراء.
- طبقة :(Melanophore) والتي تحتوي على صبغة الميلانين التي تنتج الألوان البنية والسوداء.
- طبقة :(Iridophore) وهي تعكس الألوان التقزحية مثل الزرقاء والخضراء.
- طبقة (Leucophore): وهذه الطبقة مهمتها هي عكس اللون الأبيض.
في واقع الأمر، إن نبضات الخلايا العصبية هي التي تسبب تمدد وتقلص الخلايا الملونة في هذه الطبقات، وعندما يحدث مزج بين طبقات مختلفة ينتج لنا ألوان متعددة تظهر في عين الراصد.
بالإضافة إلى ذلك، تعد الحرباء من الحيوانات التي يوجد في داخل جلدهم طبقة من بلورات الجوانين وهي التي تفسر العلاقة بين الحالة المزاجية للمخلوق الحي وأنماط تبدل ألوانه، فعندما تكون الحرباء في حالة ألفا (الاسترخاء) تكون البلورات داخل جلدها أقرب إلى بعض وتعكس أطوال موجية أقصر من الضوء وعليه فستظهر لنا اللونين الأزرق والأخضر، بعكس ما إذا كانت في حالة هلع فستستعيد البلورات ترتيبها وستتسع فتعكس أطوال موجية أطول للضوء وستظهر الحرباء بألوان أكثر إشراقاً أو أقرب إلى لون البيئة المحيطة.
في نهاية السياق، تعتبر الحرباء أكثر تطوراً من أقرانها الذين سبق وأن تم ذكرهم؛ فخلايا جلدها تحتوي على تراكيب في أسفل الطبقات حاملة للون وتختلف عن الطبقات العليا جزئياً، وهي تعمل على الحفاظ على درجة حرارة جسم الحرباء اعتماداً على طبيعة البيئة المعيشية، إذ إنه عندما تكون درجة الحرارة عالية يسمح الترتيب العشوائي لهذه التراكيب بعكس موجات الأشعة تحت الحمراء مما يجعل لدى الحرباء القدرة على توجيه الحرارة بعيداً عنها فيساهم ذلك في الحفاظ على برودة جسمها مع تبدل لونها للأبيض (الألوان الفاتحة). ومن جهة أخرى، عندما يكون الجو بارداً، تتلون الحرباء باللون البني (الألوان الداكنة) وتعيد ترتيب خلايا الجلد السفلية فتستطيع من خلال ذلك أن تجذب أشعة الشمس من الأشعة تحت الحمراء لتبقي جسمها دافئاً خلال الصباح.
المصادر:
How Blue Animals Color Themselves With Nanostructures | Quanta Magazine
Structural colour | Feature | Chemistry World
Structural Colors in the Realm of Nature (366 Pages)
Photonic Particles and Reflective Tiles | spatial experiments
The Secret to Chameleons' Ability to Change Color - Scientific American
كتابة:
مروى يوسف
مراجعة وتدقيق:
نور عبدالرضا
جميل جدا. يعطيك العافيه