top of page

منطق الكتابة وتنظيم المجتمع



 

للإستماع للمراجعة:

 

أصبحت الكتابة في المجتمعات الحديثة نوعًا من أنواع الفن الرفيع والمخملي، تمارسه طبقة المثقفين، بينما فعْل الكتابة في تأصيله مختلف في المجتمعات الأولية، ومن الصعب معرفة مستقبل الكتابة كفن أو ضرورة ثقافية متلازمة مع تطور المجتمعات بتطور أدواتها وآلياتها الثقافية، فمع كل هذا الكم الهائل من التحديث في الأدوات التي يمارسها إنسان القرن الواحد والعشرين تبقى الكتابة حاضرة وشاخصة في كل المشاهد الثقافية، وعنصر مؤثر في حياة الانسان والمجتمعات البشرية.


الكتابة لا تزال مهد العلم رغم التحولات الآلية التي طالت هذا الفعل "الكتابة" منذ الممارسة الأولى لها في الحضارة السومرية والفرعونية وبقية الحضارات وفي شتى المجالات سواء السياسية المتعلقة بالحكم وتفرعاته، أو الممارسات الكهنوتية فيما يتعلق بالنذور وتنظيم المدخلات، وأيضا القضاء فيما يتعلق بالعقود والاجراءات والمراسلات والخطابات، حيث كان للكتابة تلك التأثيرات المباشرة وغير المباشرة. فإن معرفة القراءة والكتابة قد أحدثت التأثير القوي في تنظيم المجتمعات البشرية وكذلك ساهمت في تعديل التصورات المركزية سواء كانت الأوروبية المسيحية أو العربية الاسلامية أو غيرها من المركزيات في العالم حول الجماعات البشرية وتطورها.


هذا البعد الاجتماعي والانثربولوجي لعلم وتاريخ الكتابة يكشف عن مساهمات هذا الفعل في التغيرات الهيكلية في الثقافة والاجتماع والاقتصاد، فضروب المكاتبة بكل أصنافها وأنواعها رسمت خط تطوّر الكتابة عند الانسان وحاجته الفعلية لتلك الممارسة، ففي شأن الكتابة؛ يكتب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا "علم الكتابة" عن خلخلة النظام الداخلي للغة من خلال فعل التدوين وهو ما يفسر بقاء بعض المجتمعات الشفهية التي تُمارس شفهية الكلام أو اللغة كنظام اتصال وتواصل يحافظ على نغمة الصوت الأصيل المتشكلة في بدايات الكائنات كلها، كما أن بعض الأديان مارست الكتابة في مراحل متأخرة من تكوينها الاجتماعي والسياسي خوفًا من أن يكون التدوين "الكتابة" لعبة المدونين بتلاعب السياسي بالتاريخ والدين، وقد حدث فعلاً تلاعب وكان الخوف مبرر، هكذا تكون الكتابة عند دريدا كفعل خنق للغة عندما تأطرها وتسيّجها بسياج مُدبب ممزق لأوصال اللغة إذا ما أرادت الانفلات في الفضاء الكبير التي نشأت فيه.


سوف يكون هذا الخنق مضاعفًا اذا ما اتجهت المجتمعات الحديثة نحو ترميز اللغة، كما هو واضح في الاستخدامات الرمزية الممارِسة في قنوات التواصل الاجتماعي الحديثة، هذا الترميز سوف يؤثر على خنق اللغة شفهيًا وكتابيًا، وليس بعيدًا عن ذلك مقولة جان جاك روسو حول الكتابة حيث دعا في كتابه "إميل" الى الاعتناء بالقول مقابل الكتابة لأن ممارس الكتابة متقاعس أمام الخيال والاحساس والعاطفة وهو سقوط في الفخ، والكتابة نطق فاسد لأنه إبعاد عن الفهم الواضح والصريح.


بالنتيجة لا تشكل بدايات فعل الكتابة الأهمية القصوى التي تشكله التأثيرات التي تحدثها الكتابة في تطور المجتمعات وتبدلاتها الثقافية والسياسية والاقتصادية، تلك التغيرات لها أيضًا التأثير نفسه على تطور الكتابة وقد يكون هذا التأثر بمستوى قتل لفعل الكتابة نفسه.



 

مراجعة: أكبر مدن

التعليق الصوتي: زهرة آل عباس


هذا العمل تم بالتعاون مع مبادرة القراء البحرينيون:

@bahrainireaders

@bhreaders_reviews

29 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page