top of page

لمَ لا تعدّ الجاذبية كباقي القوى؟

ترجع كل التفاعلات في كوننا إلى أربع قوى أساسية، وقد تمكن العلماء من جمع ثلاث منها في نظرية واحدة، لكن ولسنين طويلة، استعصت قوة الجاذبية عليهم، فما السبب يا ترى؟ فلننظر ما رأي أربعة علماء فيزياء في الأمر.



 

للإستماع للمقالة:


 


سألنا أربعة فيزيائيين عن سبب تفرد الجاذبية عن بقية القوى في الطبيعة. حصلنا على أربع إجابات مختلفة.


ما زال الفيزيائيون يفكرون، لماذا تسقط التفاحة بالتحديد.



تمكن الفيزيائيون من تتبع ثلاث من قوى الطبيعة "القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية" إلى أصولها في الجسيمات الكمومية. لكن القوة الرابعة الأساسية، وهي قوة الجاذبية، ببساطة مختلفة.


بنيتنا الحالية لفهم الجاذبية، و التي جاء بها آينشتاين منذ حوالي قرن من الزمن، تخبرنا بأن التفاح يسقط من الأشجار، و الكواكب تدور حول النجوم، لأنهم يتحركون في منحنيات على نسيج الزمكان - وهو دمج لمفهومي الزمان والمكان في كيانٍ واحد - وتلك المنحنيات تمثل الجاذبية. بالنسبة لآينشتاين، الجاذبية هي سمة من سمات الزمكان، وبقية القوى تظهر على ذلك المسرح، مسرح الزمكان.


لكن بالقرب من الثقوب السوداء أو في اللحظات الأولى للكون، تفشل معادلات آينشتاين! لهذا يحتاج الفيزيائيين إلى تصور أكثر صحة للجاذبية كي يستطيعوا وصف هذه الحالات المتطرفة، ويجب على هذه النظرية المصححة أن تتوافق و تنبؤات نظرية آينشتاين في كل شيء آخر.


يعتقد الفيزيائيون أن الجاذبية يجب أن تمتلك شكلًا كموميًا في هذه النظرية الأكثر صحة، مثل بقية القوى الأساسية في الطبيعة. وقد سعى الفيزيائيون خلف هذه النظرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، و وجدوا نظريات مؤهلة لذلك، ومن أبرزها نظرية الأوتار التي تبين أن الجاذبية وغيرها من الظواهر تَصدر عن اهتزازات أوتار ضئيلة في الحجم. لكن و حتى الآن، تظل هذه النظريات تخمينية وغير مفهومة بالكامل. لربما يعتبر الحصول على نظرية كمية للجاذبية أسمى هدف للفيزياء اليوم.


ما الذي يكسب الجاذبية هذا التفرد؟ ما المختلف بشأن القوة الرابعة والذي يمنع الباحثين من إيجاد وصفها الكموميّ المُضمن؟ سألنا أربعة باحثين في مجال الجاذبية الكمية وحصلنا على أربع إجابات مختلفة.



الجاذبية تولد تفرُّدات


كلاوديا دي رام، وهي فيزيائية نظرية في إمبريال كولج بلندن، عملت على نظريات جاذبية كتلية (Massive theories of gravity)، والتي تفترض أن الوحدات الكمية للجاذبية هي جسيمات ذات كتلة:


نظرية النسبية العامة لآينشتاين تصف الجاذبية بشكل صحيح على نطاق أكبر من ثلاثين قوة أسيّة من الأبعاد، من الأبعاد التي تبلغ أجزاء الملليمتر حتى الأبعاد الكونية الهائلة. لا قوة أخرى في الكون وُصفت بهذه الدقة على هذا المدى الواسع من النطاقات. مع هذا المستوى من الاتفاق العظيم ما بين النظرية والتجارب، يبدو أن النسبية العامة قادرة على أن توفر الوصف المطلق للجاذبية. والجدير بالذكر أنه و مع ذلك، فإن النسبية العامة تنبئ بسقوطها.


تقدم النسبية العامة تنبؤات بالثقوب السوداء والانفجار العظيم في منشأ كوننا. ومع ذلك، فإن التفردات (Singularities) - المناطق الغامضة حيث يحدث تقوّس لا نهائي للزمكان - في تلك الأماكن إشارة واضحة بأن النظرية قد وصلت إلى نقطة انهيارها. عندما نقترب من التفرُّد الموجود في مركز الثقب الأسود، أو تفرد الانفجار العظيم، تتوقف تنبؤات النسبية العامة عن إعطائنا الإجابات الصحيحة. إذاً، لا بد من اتخاذ وصف أكثر أصالة وأساسية للزمان والمكان ليحل محل النسبية العامة. لو استطعنا الكشف عن هذه الطبقة الجديدة من الفيزياء، فقد نتمكن من الوصول لفهم جديد للزمان والمكان.


لو كانت الجاذبية كأي قوة أخرى، لوجد لنا أمل في جسّها بشكلٍ أعمق، عبر تصميم تجارب قادرة على الوصول إلى طاقات أعلى فأعلى ومسافات أصغر فأصغر. لكن الجاذبية ليست قوة عادية؛ إن حاولت دفعها إلى كشف أسرارها وراء نقطة معينة، فقد تنهار أداة التجربة إلى ثقب أسود!



الجاذبية تورث ثقوب سوداء


دانيال هارلو، وهو فيزيائي نظري في الجاذبية الكمية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، معروف بتطبيقه لنظرية المعلومات الكمية (Quantum information theory) في دراسة الجاذبية والثقوب السوداء:


الثقوب السوداء هي السبب في صعوبة دمج الجاذبية وميكانيكا الكم. الثقوب السوداء لا تكون إلا من عواقب الجاذبية؛ لأن الجاذبية هي القوة الوحيدة التي تتأثر بها كل أنواع المادة. لو كان هناك أي نوع من الجسيمات التي لا تتأثر بالجاذبية، لتمكنّا من استعمالها لإرسال رسالة من داخل الثقب الأسود، وفي تلك الحالة لن يكون ثقبًا أسودًا.


الحقيقة في كون كل أنواع المادة تتأثر بالجاذبية تورث قيدًا على نوعية التجارب الممكنة: أياً تكن الأداة المبنية، و أياً تكن المادة المصنوعة منها، لا يجب لها أن تكون ثقيلة للغاية، و إلا فإنها ستنهار حتمًا إلى ثقب أسود. هذا القيد لا يعد ذا أهمية في الحالات الاعتيادية، ولكنه جوهري إذا ما حاولت تشييد تجربة لقياس الخصائص الكمية للجاذبية.


فهمنا لقوى الطبيعة الأخرى مبني على مبدأ المحلية، والذي يفسّر أن المتغيرات التي تصف ما يحدث عند كل نقطة في الفضاء – كشدة المجال الكهربائي في نقطة معينة مثلًا – يمكنها أن تتغير بشكل مستقل. علاوة على ذلك، هذه المتغيرات التي تسمى "درجات الحرية"، بإمكانها التأثير بشكلٍ مباشر على النقاط التي تجاورها مباشرة فقط. المحليّة مهمة لطريقة وصفنا الحالية للجسيمات وتفاعلاتها، لأنها تحفظ العلاقات السببية: فلو كانت درجات الحرية هنا في كامبردج ماساتشوستس تعتمد على درجات الحرية في سان فرانسيسكو، فقد نستطيع استغلال هذه الاعتمادية لتحقيق تواصل لحظي بين المدينتين، أو حتى لإرسال المعلومات إلى الوراء في الزمن، مما قد يؤدي إلى انتهاكات للسببية.


فرضية السببية قد اختُبرت بشكل جيد جدًا في الأوضاع الاعتيادية، ويبدو من الطبيعي افتراض امتداد صحتها للمسافات الصغيرة جدًا التي تصبح فيها الجاذبية الكمية مهمة – هذه المسافات صغيرة للغاية لأن الجاذبية أضعف من بقية القوى. للتأكد من صحة مبدأ المحلية في تلك المقاييس، علينا بناء أداة بإمكانها اختبار استقلالية درجات الحرية المفصولة بتلك المسافات الصغيرة للغاية. لكن الحسابات البسيطة تبين أن أداةً ثقيلةً بما فيه الكفاية، بحيث تكفي لتجنب تذبذبات كمية كبيرة (Quantum fluctuations) في مكانها "و التي قد تفسد التجربة"، لا بد لها أن تكون ثقيلةً بما فيه الكفاية لتنهار إلى ثقب أسود! لهذا، فإن التجارب التي تثبت المحليّة في هذه المقاييس غير ممكنة. لهذا، فإن الجاذبية الكمية لا تهتم بالمحلية في تلك الأبعاد الصغيرة.


حقيقةً، فهمنا للثقوب السوداء حتى الآن يقترح أن أي نظرية جاذبية كمية يجب أن تمتلك درجات حرية أقل من المتوقع بشكل ملحوظ بناءً على خبرتنا مع غيرها من القوى. هذه الفكرة مُقننة في "المبدأ الهولوغرافي (Holographic principle)"، والذي يبين – إلى حدٍ ما – أن عدد درجات الحرية في منطقة من الفضاء يتناسب مع مساحة سطحها عوضًا عن حجمها.



الجاذبية تخلق شيء من لا شيء


وان مالداسينا، فيزيائي نظري في الجاذبية الكمية بمعهد الدراسة المتقدمة في برنستون نيو جيرسي، مشهور باكتشافه علاقة شبيهة بالهولوغرام بين الجاذبية وميكانيكا الكم:


بإمكان الجسيمات أن تُبدي الكثير من الظواهر المثيرة والمفاجئة. يمكننا الحصول على تكوين عفوي للجسيمات، وتشابك ما بين الحالات الكمومية لجسيمات متباعدة، وجسيمات في حالة تراكب كمومي (Quantum superposition) بإمكانية وجود في مواقع متعددة.


في الجاذبية الكمية، يتصرف الزمكان بطرق فريدة. فبدلًا من خلق الجسيمات، لدينا خلق للأكوان. يُعتقد أن التشابك الكمومي يخلق روابط بين أماكن متباعدة من الزمكان. و يوجد لدينا تراكب لأكوان ذات هندسة زمكان مختلفة.


علاوة على ذلك، فمن منظور فيزياء الجسيمات، الفراغ في الفضاء شيء معقد. يمكننا تخيل العديد من الكيانات المتراكبة فوق بعضها البعض تسمى مجالات، وهي متواجدة على امتداد الفضاء. قيمة كل مجال تتذبذب باستمرار في مسافات صغيرة. من خضم هذه المجالات المتذبذبة وتفاعلاتها، تنبثق حالة الفراغ الكمومية. الجسيمات هي اضطرابات في حالة الفراغ تلك، ويمكننا تصورها كعيوب صغيرة في بنية الفراغ.


عندما نأخذ الجاذبية بعين الاعتبار، يبدو لنا أن تمدد الكون يفرز المزيد من هذا الفراغ من العدم. عندما يُخلق الزمكان، فإنه يكون في حالة تتوافق مع فراغ خالٍ من العيوب. كيف يظهر الفراغ في النسق المناسب بدقة، هو أحد التساؤلات التي يجب علينا إجابتها كي نحصل على وصف متسق للثقوب السوداء و علم الكون. في كلتي الحالتين نوع من التمدد للزمكان، و الذي يؤدي إلى خلق المزيد من مادة الفراغ تلك.



لا يمكن حساب الجاذبية


سيرا كرِمونيني، فيزيائية نظرية في جامعة ليهاي، تعمل على نظرية الأوتار والجاذبية الكمية وعلم الكون:


هناك أسباب كثيرة لتميّز الجاذبية. لكن دعوني أركز على إحدى الأسباب، وهي فكرة أن النسخة الكميّة من النسبية العامة لآينشتاين لا تنجح فيها فكرة استبدال اللامتناهيات (Renormalization). و هذا له تداعيات لسلوك الجاذبية عند الطاقات العالية.


في النظريات الكمية، تظهر حدود لا متناهية عند محاولة حساب كيف تتصادم الجسيمات ذات الطاقة العالية مع بعضها البعض وكيف تتفاعل. في النظريات ذات القابلية لاستبدال اللا متناهيات – والتي تتضمن النظريات التي تصف جميع قوى الطبيعة عدا الجاذبية – بإمكاننا إزالة اللامتناهيات بطريقة دقيقة رياضيًا عبر إضافة كميات أخرى مناسبة تلغيها بشكل جيد، ويُطلق عليها بالحدود المضادة. عملية استبدال اللامتناهيات هذه تؤدي إلى إجابات فيزيائية منطقية، والتي تتفق مع التجارب بدرجة عالية من الدقة.


الإشكالية في نسخة كمية من جاذبية آينشتاين، أن الحسابات التي تصف تفاعلات الجرافِتونات - الوحدات الكمومية للجاذبية - ذات الطاقة العالية سيكون بها عدد لا نهائي من الحدود الغير متناهية. أي ستحتاج إلى إضافة عدد غير متناهٍ من الحدود المضادة في عملية مستمرة لا نهاية لها. عملية استبدال اللامتناهيات سوف تؤول إلى الفشل. لهذا، فإن نسخة كمية لجاذبية آينشتاين ليست وصفًا جيدًا للجاذبية في الطاقات العالية جدًا. إذ لا بد لها أن تفتقد بعض المكونات والمميزات الرئيسية للجاذبية.


و لكن، و على الرغم من ذلك، مازال بإمكاننا امتلاك وصف تقريبي للجاذبية عند الطاقات المنخفضة باستخدام التقنيات الكمومية الاعتيادية التي تصلح مع غيرها من تفاعلات الطبيعة. النقطة المحورية هي أن هذا الوصف التقريبي سينهار فوق مستوى طاقة معين، أو بعبارة أخرى، تحت مستوى طول معين.


فوق مستوى الطاقة هذا، أو تحت مستوى الطول المُقترن به، نتوقع إيجاد درجات حرية جديدة وتناظرات جديدة. كي نلتقط هذه الخصائص بدقة، فإننا سنحتاج إلى بنية نظرية جديدة. هنا بالتحديد يأتي دور نظرية الأوتار أو تعميم مناسب آخر: بحسب نظرية الأوتار، ففي المسافات الصغيرة للغاية، سوف نرى الجرافتونات وغيرها من الجسيمات كأجسام ممتدة تسمى أوتارًا. دراسة هذه الإمكانية قد تعلمنا دروسًا قيمة بشأن سلوك الجاذبية الكميّ.



 

المصدر:

Why Gravity Is Not Like the Other Forces

 

ترجمة:

محمد أحمد عياش


مراجعة وتدقيق:

أمل مرزوق





36 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page